الخميس، فبراير 19، 2009

كاميرا بين رجلين تعيش و أنا


كثيرا ما تكون الحياة بخيلة حتى في خلق المحنة، ومن ثم تكافئك بـ..(لحظة) .. تكون نقطة تماس بين عالمين لم تسمع يوما عن تلاقيهم ولا تعرف لتقاطعهم قاعدة، ورغم هذا يحدث الاختراق الذي يستحق أن يسجل في دفاترك تحت مسمى .."لحظة خاصة"



والآن اقف مع هذه اللحظة.


نقطة الانطلاق كانت مع صفحة النهاية في رواية "عابر سرير" للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمى، و كان فكري مع بطل الرواية "خالد بن طوبال".. مصور جزائري ذهب إلى باريس لإستلام جائزة عن صورة التقطها لطقل يجلس الى جوار جثة كلب فى قرية قتل كل من فيها باسم الدين.
حدث هذا أثناء رحلة من بلدتي إلى بلدة بعيدة يستغرق الطريق لها ثلاث ساعات، وفى نفس اللحظة التي كانت يدى فيها تغلق صفحة وخيالي يضع مع هذا البطل افتتاحية كتاب كان السائق يدير مؤشر الراديو ويتوقف مع إذاعة البى بى سى العربية
و .. "نتحدث اليوم أيضا في برنامج بى بى سى اكسترا عن فوز المصور الفلسطيني زكريا ابو هربيد بجائزة دولية عن صورة التقطها للطفلة هدى غالية التي حركت مشاعر الجميع هذا العام"".


بالطبع غالبنى الإبتسام و شعرت كأن شىء تسرب بين الحبر وخواطري وانتقل إلى الراديو ليحكى منه السيد زكريا..
ولأنني كغيرى ممن نعشق امتطاء الفرص الخيالية عقدت لقاءين متوازين، الأول بين عيني والصفحة رقم 54 من الرواية، والثاني بين أذني والدقيقة الخامسة عشر من البرنامج ..اللقاء الأول يحكى عن صورة جسدت الخرس، والثاني يشير إلى صورة انطلقت من طياتها صرخة.اقرأ معي هذا الحصاد



رجل يذكر رجل


*خالد : كنت دائم الاعتقاد أن الصورة كما الحب، تعثر عليها حيث لا تتوقعها أنها ككل الأشياء النادرة هدية المصادفة، المصادفة هي التي قادتني ذات صباح إلى تلك القرية وأنا في طريقي إلى العاصمة آتيا من قسطنطينية بالسيارة برغم تحذير البعض، كنت مع زميل عندما استوقفتنا قرية لم تستيقظ من كابوسها ومازالت مذهولة أمام موتاها.


- زكريا: لقد صادفت الموت كثيرا واعتقد أنى أحيانا أصادقه، تصادف تواجدى في محافظة الشمال لتغطية حدث آخر، حين اتصل بى أحد أفراد الإسعاف وقال أن هناك مجزرة على شاطئ بيت لاهيا، فذهبت مسرعاً بسيارته ولم يكن أي من الصحافيين قد وصل بعد..و بمجرد وصولى أخذت أصور الجثث الملقاة على الأرض والأطفال الذي استشهدوا.


*خالد: في زمن الهوس المرئي بالمذابح وبالميتات المبيتة الشنيعة من يصدق النوايا الحسنة لمصور تتيح له الصورة حق ملاحقة جثث القتلى ببراءة مهنية ؟ ليست أخلاق المروءة بل أخلاق الصورة هي التي تجعل المصور يفضل على نجدتك تخليد لحظة مأساتك ففي محاولة إلقاء القبض على لحظة الموت الفوتوغرافي بإمكان المصور القناص مواصلة إطلاق فلاشاته على الجثث بحثا عن "الصورة الصفقة"..هاهو الموت ممدد أمامك على مد البصر أيها المصور..قم فصور!


- زكريا :" كنت أريد أن أقوم بإسعاف من حولي ولكن رأيت أن من واجبي أن أصور فالصورة ليست ملك لأحد.. يجب أن تصل الجميع، وما شجعني أكثر على الاستمرار في التصوير تشجيع هدى نفسها، حين قالت له "صوّر"، وكأنها تدرك أهمية الكاميرا لحظتها.


*خالد : ثم رأيته..ماذا كان يفعل هناك ذلك، الصغير الجالس وحيدا على رصيف الذهول؟ .. كان الصغير جالسا كما لو انه يواصل غيبوبة ذهوله، اخبرني احدهم أنهم عثروا عليه تحت السرير الحديدي الضيق الذي كان ينام عليه والده حيث تسلل من مطرحه الأرضي الذي كان يتقاسمه مع أمه وأخويه وانزلق ليختبئ تحت السرير أو ربما هي التي دفعت به هناك لإنقاذه من المذبح.


- زكريا: بدأت في تصوير كل ما حولي وإطلاق اللقطات هنا وهناك، لكن ما لفت انتباهي حينها فتاة تخرج من البحر تبحث بين الجثث عن أفراد عائلتها، وتبكي وهي تشاهدهم في النزع الأخير يحتضرون.


* خالد : عندما كنت التقط صورة هذا الطفل حضرني قول مصور أمريكي أمام موقف مماثل "كيف تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع؟".ولم أكن بعد لأصدق انك كي تلتقط صورتك الأنجح، لا تحتاج إلى آلة تصوير فائقة الدقة، بقدر حاجتك إلى مشهد دامع يمنعك من ضبط العدسة .


زكريا: كنت محتاراً ماذا أعمل وبدون مبالغة أقول أنني بكيت أكثر منها، ولكني سيطرت على مشاعري وتركت الكاميرا تشتغل بمشاعري، وأنا الآن لا استطيع أبدا مشاهدة هذا الشريط، إنه يمزقني من داخلي وأعترف أنني كنت أثناء التصوير أشجع من أن أحضره كمشاهد عادي.


* خالد : اتهموني أنني أروج لصور سيئة عن الجزائر وتساءلوا هل أعطوا الصورة للكلب أم عن الطفل؟


- زكريا : لا افهم هذه المهاجمة التي تقول أننا نجرح مشاعر الناس بهذه الصور الصعبة، أنا مع أن الناس تشوف، حتى لو كانت بشاعة طفل يقتل كيف أطالب بأن أريح الناس من هم ومسئولية مشاهدة المنظر من واجبهم على الأقل أن يحسوا بآلامهم.


* خالد: أول فكرة راودتني عندما علمت بنيل تلك الجائزة العالمية عن أفضل صورة صحفية في العام، هي العودة إلى تلك القرية للبحث عن ذلك الطفل، كانت فكرة لقائي به تلح على وقررت أن اخصص نصفه لمساعدة ذلك الصغير، كنت أفكر به وكأنه أصبح إبنا لآلة التصوير بالتبني، وربما فكرت أن استعجل التخلص من شبهة مال تروح منه رائحة مريبة وكأنني أريد أن اغسله مما علق بد من دم.


- زكريا: بعد تسلم الجائزة خاطبت الحضور الذين خيّم عليهم الصمت، بعد تذكرهم مشهد الطفلة غالية، وهي تصرخ على شاطئ بحر غزة "يابا يابا"، وقلت اليوم وعلى الرغم من سعادتي بالفوز بهذه الجائزة، إلا أنني أشعر بالحزن والأسى، إنني لا أستطيع أن أغطي ما يحدث في بلدتي بيت حانون المنكوبة، وأهدي هذه الجائزة والتقدير الدولي إلى كل أطفال فلسطين، وأخص بالذكر الطفلة هدى غالية.


ـــــــــــــــــــــــــ

* نشرت في قسم قلم رصاص في موقع عشرينات

الثلاثاء، فبراير 10، 2009

إصابة


مرت الأيام العشرون للحرب، و كنت خلالها محملة بوفر من النوايا المؤصدة.

أتذكر أحلاما ليلية و"نهارا خارجيا" قضيته بين السنترال الدولي وصالات الوصول بمطار القاهرة.. وعندما حضر من كنت بانتظاره قلت له: لو تعلم كم يوما مر بي خلال العشرين يوما الماضية! ضحك واتهمني بهواية جمع الكلمات الغربية، ولكني كنت أعرف أنه مثلي يفهم كم هو طويل ليل المديون المدان وكنت بدوري أنتظر حديثه حول السؤال الذي واجهه كثيرا خلال رحلته " لِم لمْ تفتحوا المعبر بصدوركم حتى الآن؟"

وجاء ليل جديد، أغمضت عيني على صورة طفل فقد مقلتيه.. وأخذت أستعيد كل ما مر بنا، ففور خلع قناع الهدنة الزائفة فاحت رائحة الغدر الصهيوني المعتادة وأطلت أرواح جفت داخلها الرجفة.. وقفت في انتظار مصيرها .. ثم .. بدأت المحرقة.

ورغم هذا كنت اعلم أن ما جاءوا من أجله يتحطم بمجرد نجاح فصائل المقاومة بالبقاء.. وأن سوادا كثيرا سيحط فوق الرؤوس ومن بعده تظهر المعادلة الأبدية، وهي مزيد من القتل والوحشية يؤدي لمزيد من المقاومة.. ومزيد من الحصار يخلق الابتكار لا الانتظار.. وأن قتل المدنيين صنيعة ساذجة تحتاج قلوب يائسة قبل القوة الباطشة.


جمع ليس بالقليل.. رغم كل ما يلاقيه.. يؤمن بشيء مما سبق، ولكني لم أذهب هذه المرة وآخذ مكاني بالصف، لم أرفع صوتي بأي شيء.. لا خذوني معكم ولا اتركوني لهمي.. صمتُ.. وعقابا لنفسي رفضت البكاء.. وخرجت مني أطياف عدة..

فـصرت.. رضيعا دون منطق يخجله البلل.. فتاة صغيرة بأغنية مهزومة تأمرها جدتها أن تحمل عنها غطاء رأسها الأبيض وتعلقه على مدخل أقدارنا.

صرت عرافة أطلت على ما لا يحق لها فسلبت حق تغييره، فالحق يبدد ـ إن لم تخطب مشروعية قضيته ـ والأمل يخلق من الإصرار لا من انعدام الحيلة والتواطؤ وانتحار العزة وملامسة الدمار.

صرت أشياء مبعثرة وحادة.. صرت شباكا مغلقا بزجاج أصابه السرطان فلن يرى من يحتمي خلفه ولن يتنفس الهواء.. صرت علبة "كانز" فارغة سحقتها كل السيارات، لم لا؟ وقد فاتتها قديماً كل الطرق الصحيحة، وتركت نفسها لسماسرة الشوارع والاتفاقيات.

كنت وكانت السماء محملة بالأمل ولكن هاجسا داخلي يخبرني.. هي لا تبتسم لك ولسوف ترميك بحجارة من سجيل فقفي مكانك وانتظري.. أنت من قوم يعشقون المهانة والموت البطيء.. من قوم يرون في الأفق لعنة تشجب ما مر قبلها في ثمود وعاد.. من قوم أكلت العواصف كل أحلامهم وتركتهم حتى دون ملابس الحداد.

كنت في الحلم حافية اللقبين.. الكرامة والغضب.. وكان هناك وحش يجرني من شعري.. هو الهوان.. يفتح عيني على آخرهما فتتجرعان مشاهد الدم والحريق وحين أفقت وجدت مقلتين صغيرتين في يدي.

صرت.. معبرا لا يعتبر.. وصدرا لا يجتاح ولا يرتاح.. لا يغفر ولا عجزه يغتفر ..صرت كل ذلك رغم أني -كغيري- في يوم سحيق وقفت.. أنتظر القمر.

صرت -وخوفي أن أبقى- أحمل كل الأوساخ فوق رأسي رغم أني.. والحق قسمي.. لا أملك خطوطا حمراء ولا أعرف توجهات المرحلة.. لم تطأ قدماي يوما شرم الشيخ .. ولم أتخيل أن يأتي يوم أتخلى فيه عن تل الربيع وحيفا والناصرة...

وها أنا ذا أفترش مع سبعين مليونا.. الطريق.. الرمال من تحتنا تزداد عمقا.. والظلام دامس داخل المغارة.. شعورنا مبعثرة وقد اعتدنا الأصوات العالية .. غريق أو بريء.. لا يهم.. فبالنهاية صمت.. ولخبز الذل أن يتقدم.. فيمضغ أوصال الحضارة.

سبعون مليونا.. ممددون في شوارع الليل عرايا، نسمع أن خارج الكهف أناس يحمدون الله كل يوم على فضيلة الإستشهاد.. ونتجرع نحن كل لحظة ميتة المرارة المجانية.. فهل سمع بنا أحد؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر بنطاق ثقافة و فن بموقع إسلام اون لاين