الجمعة، يونيو 19، 2009

احمد و إيجور .. و أنفاس البعد



في هذا الجانب من الأرض

كانت فتاة تسير بعيون مفزوعة، تمسك يد جدها الضرير وتسأل أين ذهب أخيها ؟ صغير ضاع وحده تحت وطأة الرصاص و القهر، و هم دون غيرهم من سكان العالم يهرولون .. يعرفون مما يهربون و لا يدرون إلى أين المفر .. ما بين الخطوة و الأخرى تأخذهم نوبات وجع محمل بالضجر.

و بجانبها الآخر

طفل شاحب اللون و الشعر اصفر، كان و حده يختبئ تحت بقايا منزل ضم يوما دقات فرح خفاق، و لكنه تهدم و ترك الصغيروحده ينظر لفريق المدفعية الذي قضى على حيهم الفقير ويكتشف انه لم يفقد فقط والديه و لكن أيضاً بائع الحلوى و كرة السلة في الساحة الخلفية و كل الرفاق، و أنه من اليوم وحده و الحياة مالحة لها طعم الفراق.

..

كانت صبية الجانب الأول يملؤها يقين أن أبيها ورفاقه و السلاح سيرغمون الأسر اليهودية الوافدة على الرحيل، والفتيات الشقراوات ذوات الملابس القصيرة سيرحلن هن وكرتهن الطائرة،و أن (احمد) أخيها الأصغر سيكبر و أنه باق معها على شاطىء (طبرية) يجمع البرتقال و يملأ فمه ـ كما تعرفون ـ بالزعتر.


و طفل الجانب الآخر ما زال يرتعد، بالكاد تعرف على صوت جاره العجوز و هو يناديه بإسمه (إيجور) فتذكر عالمه الذي ما لبث و تبخر، حمله هذا العم (أدولف أدلمان) لبيت قديم على أطراف مدينة (وارسو) البولندية، شاهد نفسه و هو يكبر يحمل المؤن للمقاومين اليهود ممن خاضوا عمليات عصابية ضد القوات النازية .

أطلق يهود الحي الفقير النار ورموا قنابل يدوية على الجنود وانتهت أعمال المقاومة مع نهاية الأربعينات بعد قتل حوالي سبعة آلاف يهودي وإحراق ستة آلاف آخرين، وكان الجيتو ـ على حسب قصتهم التي لا يعتقد فيها الكثيرون ـ يضم 370 ألف يهودي، غير أن من بقوا منهم في نهاية الانتفاضة كانوا حوالي 50 ألفاً قيل أن اغلبهم بدء رحلة الهجرة إلى كيان جديدة شبهوه لهم بالحلم المشروع و أسموه إسرائيل.


و أخذت الصبية تكبر بعيون سوداء يزداد اتساعها مع سماع أخبار كل عملية فدائية جديدة من تفجير قنبلة في استراحة عسكرية إسرائيلية في أواخر السبعينات لخطف ثلاث جنود إسرائيليين في عملية "الوهم المتبدد" بأوائل الألفية الثالثة، و ما زالت تبحث بين عيون الملثمين عن ومضة كانت بعيون أخيها و هو يركض فوق أرض تحمل ملامحه و تسمي فلسطين

...

ما سبق كانت أيام بعيدة تلتها أيام أصعب مر عليها أكثر من ستين عام و من يومها و نشرات الأخبار تحكي أن الجانب الأول من الأرض تحول إلى حفنة رمال أسيرة تحمل على سطحها صورة خطى أقدام نزحت فلجأت و رغم الأيام ما زالت تحفظ طريق للعودة و على أطرافها بقت بطون تكبر و بداخلها يتكون ألف احمد يحمل بندقية .

و من الجانب الآخر من الأرض تنقل نشرات الإخبار احتفال سنوي تفرضه السلطات البولندية على مواطنيها للاعتذار لممثلي الصهاينة عن معتقلات الإبادة و محارق الغاز و غيرها من جروح الابتزاز ، لكن الأكيد ـ الذي تجاهلته النشرات ـ انه لم يعد هناك وجود لهذا الحي الذي من اجله حارب إيجور ورفاقه، و لقد تلاشى نفس الحي من كل العواصم، طمست ذكرياته و بدلاً منه تجمعوا بحي كبير خادع لا لون بشرة معروف له، لا يحمل خاصية البقاء و لا يملك لها دافع.

..

و ما زالت جوانب الأرض تدور دورانا محموماً تتبادل أقدارها، و من داخل دوائرها تقاطع خبران يفصل بينهما في الحقيقة شارع أو أكثر و لكن به وقف العالم بأكلمه و احتشد عله يوقف هذا التفاعل المرتقب.


ـ الخبر الأول لعيون مازالت باهتة و شعر كان أصفر ، وقف هذا الشيخ أمام قاعة الاحتفال بوسط وارسو بتابع كلمات شيمون بيريز المنقولة على الهواء، و قف يحمل لافتة و مكبر صوت خرج منه صوت يقول " بأي يوم استقلال تحتفلون .. العرب ليسوا إرهابيون .. و لم نكن، كان هكذا يطلق علينا النازيون و كنا نسمى أنفسنا الأنصار، ذهبتم إلى هناك و لم نذهب و لكننا نعلن صداقتنا لكل من يقاوم في كل مكان و زمن"، لم تتهمه الشرطة بأنه يردد رأى لا تجرؤ كل الحكومات الغربية على نطقه منذ أكثر من ستين عام و لكنه حملوه للمخفر بتهمة الإزعاج و تكدير الصفو العام .

ـ الخبر الثاني لأسمر اللون، بنيته هزيلة و في طياتها إرادة شابة ، يحمل في يده مسدس صغير في ساحة فندق بوسط وارسو، اعتبرته الشرطة عربي بعد أن احتجز في غرفته ثلاث إسرائيليين جاءوا للاحتفال بيوم الإستقلال و طالب هو في ذكرى النكبة بإبدالهم بأسرى فلسطينيين، التجربة لم تصمد كثيرا و ذهب الشاب للمخفر، و لم تلتفت له كاميرا واحدة.


..

ترى هل هذا أحمد جديد ؟ و هل يا ترى هو نفسه إيجور البولندي؟ هل يا ترى جمعتهم قاعة تحقيق واحدة أم فصل بينهم جدار زجاجي بارد يشبه هذا العالم و يدعي مثله أنه يمكنه بفعل الوقت و القتل و الفصل أن يبدد ذاكرة الشتات و يخنق أنفاس البعد؟ !!.