إصابة
مرت الأيام العشرون للحرب، و كنت خلالها محملة بوفر من النوايا المؤصدة.
أتذكر أحلاما ليلية و"نهارا خارجيا" قضيته بين السنترال الدولي وصالات الوصول بمطار القاهرة.. وعندما حضر من كنت بانتظاره قلت له: لو تعلم كم يوما مر بي خلال العشرين يوما الماضية! ضحك واتهمني بهواية جمع الكلمات الغربية، ولكني كنت أعرف أنه مثلي يفهم كم هو طويل ليل المديون المدان وكنت بدوري أنتظر حديثه حول السؤال الذي واجهه كثيرا خلال رحلته " لِم لمْ تفتحوا المعبر بصدوركم حتى الآن؟"
وجاء ليل جديد، أغمضت عيني على صورة طفل فقد مقلتيه.. وأخذت أستعيد كل ما مر بنا، ففور خلع قناع الهدنة الزائفة فاحت رائحة الغدر الصهيوني المعتادة وأطلت أرواح جفت داخلها الرجفة.. وقفت في انتظار مصيرها .. ثم .. بدأت المحرقة.
ورغم هذا كنت اعلم أن ما جاءوا من أجله يتحطم بمجرد نجاح فصائل المقاومة بالبقاء.. وأن سوادا كثيرا سيحط فوق الرؤوس ومن بعده تظهر المعادلة الأبدية، وهي مزيد من القتل والوحشية يؤدي لمزيد من المقاومة.. ومزيد من الحصار يخلق الابتكار لا الانتظار.. وأن قتل المدنيين صنيعة ساذجة تحتاج قلوب يائسة قبل القوة الباطشة.
جمع ليس بالقليل.. رغم كل ما يلاقيه.. يؤمن بشيء مما سبق، ولكني لم أذهب هذه المرة وآخذ مكاني بالصف، لم أرفع صوتي بأي شيء.. لا خذوني معكم ولا اتركوني لهمي.. صمتُ.. وعقابا لنفسي رفضت البكاء.. وخرجت مني أطياف عدة..
فـصرت.. رضيعا دون منطق يخجله البلل.. فتاة صغيرة بأغنية مهزومة تأمرها جدتها أن تحمل عنها غطاء رأسها الأبيض وتعلقه على مدخل أقدارنا.
صرت عرافة أطلت على ما لا يحق لها فسلبت حق تغييره، فالحق يبدد ـ إن لم تخطب مشروعية قضيته ـ والأمل يخلق من الإصرار لا من انعدام الحيلة والتواطؤ وانتحار العزة وملامسة الدمار.
صرت أشياء مبعثرة وحادة.. صرت شباكا مغلقا بزجاج أصابه السرطان فلن يرى من يحتمي خلفه ولن يتنفس الهواء.. صرت علبة "كانز" فارغة سحقتها كل السيارات، لم لا؟ وقد فاتتها قديماً كل الطرق الصحيحة، وتركت نفسها لسماسرة الشوارع والاتفاقيات.
كنت وكانت السماء محملة بالأمل ولكن هاجسا داخلي يخبرني.. هي لا تبتسم لك ولسوف ترميك بحجارة من سجيل فقفي مكانك وانتظري.. أنت من قوم يعشقون المهانة والموت البطيء.. من قوم يرون في الأفق لعنة تشجب ما مر قبلها في ثمود وعاد.. من قوم أكلت العواصف كل أحلامهم وتركتهم حتى دون ملابس الحداد.
كنت في الحلم حافية اللقبين.. الكرامة والغضب.. وكان هناك وحش يجرني من شعري.. هو الهوان.. يفتح عيني على آخرهما فتتجرعان مشاهد الدم والحريق وحين أفقت وجدت مقلتين صغيرتين في يدي.
صرت.. معبرا لا يعتبر.. وصدرا لا يجتاح ولا يرتاح.. لا يغفر ولا عجزه يغتفر ..صرت كل ذلك رغم أني -كغيري- في يوم سحيق وقفت.. أنتظر القمر.
صرت -وخوفي أن أبقى- أحمل كل الأوساخ فوق رأسي رغم أني.. والحق قسمي.. لا أملك خطوطا حمراء ولا أعرف توجهات المرحلة.. لم تطأ قدماي يوما شرم الشيخ .. ولم أتخيل أن يأتي يوم أتخلى فيه عن تل الربيع وحيفا والناصرة...
وها أنا ذا أفترش مع سبعين مليونا.. الطريق.. الرمال من تحتنا تزداد عمقا.. والظلام دامس داخل المغارة.. شعورنا مبعثرة وقد اعتدنا الأصوات العالية .. غريق أو بريء.. لا يهم.. فبالنهاية صمت.. ولخبز الذل أن يتقدم.. فيمضغ أوصال الحضارة.
سبعون مليونا.. ممددون في شوارع الليل عرايا، نسمع أن خارج الكهف أناس يحمدون الله كل يوم على فضيلة الإستشهاد.. ونتجرع نحن كل لحظة ميتة المرارة المجانية.. فهل سمع بنا أحد؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر بنطاق ثقافة و فن بموقع إسلام اون لاين
أتذكر أحلاما ليلية و"نهارا خارجيا" قضيته بين السنترال الدولي وصالات الوصول بمطار القاهرة.. وعندما حضر من كنت بانتظاره قلت له: لو تعلم كم يوما مر بي خلال العشرين يوما الماضية! ضحك واتهمني بهواية جمع الكلمات الغربية، ولكني كنت أعرف أنه مثلي يفهم كم هو طويل ليل المديون المدان وكنت بدوري أنتظر حديثه حول السؤال الذي واجهه كثيرا خلال رحلته " لِم لمْ تفتحوا المعبر بصدوركم حتى الآن؟"
وجاء ليل جديد، أغمضت عيني على صورة طفل فقد مقلتيه.. وأخذت أستعيد كل ما مر بنا، ففور خلع قناع الهدنة الزائفة فاحت رائحة الغدر الصهيوني المعتادة وأطلت أرواح جفت داخلها الرجفة.. وقفت في انتظار مصيرها .. ثم .. بدأت المحرقة.
ورغم هذا كنت اعلم أن ما جاءوا من أجله يتحطم بمجرد نجاح فصائل المقاومة بالبقاء.. وأن سوادا كثيرا سيحط فوق الرؤوس ومن بعده تظهر المعادلة الأبدية، وهي مزيد من القتل والوحشية يؤدي لمزيد من المقاومة.. ومزيد من الحصار يخلق الابتكار لا الانتظار.. وأن قتل المدنيين صنيعة ساذجة تحتاج قلوب يائسة قبل القوة الباطشة.
جمع ليس بالقليل.. رغم كل ما يلاقيه.. يؤمن بشيء مما سبق، ولكني لم أذهب هذه المرة وآخذ مكاني بالصف، لم أرفع صوتي بأي شيء.. لا خذوني معكم ولا اتركوني لهمي.. صمتُ.. وعقابا لنفسي رفضت البكاء.. وخرجت مني أطياف عدة..
فـصرت.. رضيعا دون منطق يخجله البلل.. فتاة صغيرة بأغنية مهزومة تأمرها جدتها أن تحمل عنها غطاء رأسها الأبيض وتعلقه على مدخل أقدارنا.
صرت عرافة أطلت على ما لا يحق لها فسلبت حق تغييره، فالحق يبدد ـ إن لم تخطب مشروعية قضيته ـ والأمل يخلق من الإصرار لا من انعدام الحيلة والتواطؤ وانتحار العزة وملامسة الدمار.
صرت أشياء مبعثرة وحادة.. صرت شباكا مغلقا بزجاج أصابه السرطان فلن يرى من يحتمي خلفه ولن يتنفس الهواء.. صرت علبة "كانز" فارغة سحقتها كل السيارات، لم لا؟ وقد فاتتها قديماً كل الطرق الصحيحة، وتركت نفسها لسماسرة الشوارع والاتفاقيات.
كنت وكانت السماء محملة بالأمل ولكن هاجسا داخلي يخبرني.. هي لا تبتسم لك ولسوف ترميك بحجارة من سجيل فقفي مكانك وانتظري.. أنت من قوم يعشقون المهانة والموت البطيء.. من قوم يرون في الأفق لعنة تشجب ما مر قبلها في ثمود وعاد.. من قوم أكلت العواصف كل أحلامهم وتركتهم حتى دون ملابس الحداد.
كنت في الحلم حافية اللقبين.. الكرامة والغضب.. وكان هناك وحش يجرني من شعري.. هو الهوان.. يفتح عيني على آخرهما فتتجرعان مشاهد الدم والحريق وحين أفقت وجدت مقلتين صغيرتين في يدي.
صرت.. معبرا لا يعتبر.. وصدرا لا يجتاح ولا يرتاح.. لا يغفر ولا عجزه يغتفر ..صرت كل ذلك رغم أني -كغيري- في يوم سحيق وقفت.. أنتظر القمر.
صرت -وخوفي أن أبقى- أحمل كل الأوساخ فوق رأسي رغم أني.. والحق قسمي.. لا أملك خطوطا حمراء ولا أعرف توجهات المرحلة.. لم تطأ قدماي يوما شرم الشيخ .. ولم أتخيل أن يأتي يوم أتخلى فيه عن تل الربيع وحيفا والناصرة...
وها أنا ذا أفترش مع سبعين مليونا.. الطريق.. الرمال من تحتنا تزداد عمقا.. والظلام دامس داخل المغارة.. شعورنا مبعثرة وقد اعتدنا الأصوات العالية .. غريق أو بريء.. لا يهم.. فبالنهاية صمت.. ولخبز الذل أن يتقدم.. فيمضغ أوصال الحضارة.
سبعون مليونا.. ممددون في شوارع الليل عرايا، نسمع أن خارج الكهف أناس يحمدون الله كل يوم على فضيلة الإستشهاد.. ونتجرع نحن كل لحظة ميتة المرارة المجانية.. فهل سمع بنا أحد؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشر بنطاق ثقافة و فن بموقع إسلام اون لاين
3التعليقات :
الله يوفقك
هذه مدونة جميله
و سأواكب على قرائتها بإذن الله. تقبل تعليقاتي و تحياتي :)
كنت أرغب عمل تبادل نصي مع هذه المدونة الجميله مع منتداي
http://7ama2i.com/forums/
منتظر ردك على بريدي
dito0o@yahoo.com
ايييييييييييييييييييه ده بس؟
يااااااااه عليكي ...
لي عودة ....
رائعة يا مني
إرسال تعليق
<< الرئيسية